( فتح صديقي نافذة غرفة مكتبنا المغلقة منذ شهور،
تسلل صوت دعاء الكروان من فوق سطح إحدى البنايات ،
داعب قلبي المتحجر ،
فتح برفق أبوابه الموصدة ،
تسرب حنين الذكريات بين حناياه اليابسة ،
أحسست برغبة في التقاط أنفاسي ،
امتدت أصابعي إلى ربطة عنقي التي أحكمت الخناق حوله تفكها ،
أزحت لوحة مفاتيح الكمبيوتر بعيدا و انتفضت واقفا ،
أتاني صوت صديقي )
ـ على فين يا ريس ؟
ـ مروح .
ـ طب ما لسه بدري ، استنى الساعتين دول و نروح سوا .
ـ لا كفاية كده قوي ، أنا رايح البلد .
ـ أيوة يا عم ، رايح تبل ريقك ؟ أمـــــوت و أشوفها .
ـ هي مين دي إن شاء الله ؟
ـ أيوة ياله استهبل استهبل ، البت اللي بتخليك تسيب اللي وراك و اللي قدامك و تجري تروح لها ....
( قلت بينما أرتدي معطفي )
ـ و الله ما أنت فاهم حاجة ، سلام ...
ـ طب و الشغل المتلتل على رأس أبونا ده ؟
ـ إياكش يولع بجاز .
ـ طب أقول إيه ل (عز ) بيه ؟
ـ قول له مات ، جت له شوطة خدته ، اتصرف ، دي مشكلتك أنت ....
( انطلقت خارجا ،
تسللت من تحت الكتل الخراسانية التي طبقت على صدري لسنوات ،
أدفع هذه الأبواب المعدنية الميتة من طريقي ،
أخرج إلى الشارع أستنشق نسيم الحرية ، أملأ صدري ...
أخذت أسعل بشدة ، ملأ صدري عادم السيارات اللعينة ،
هذه الصناديق المعدنية المحمولة على عجلات ،
تنفث سمومها طوال اليوم فتحيل الحياة جحيما ،
نظرت إلى هذه الغيمة من أبخرة البنزين التي حجبت الرؤية حولي ،
وضعت منديلي فوق أنفي و جريت فارا بنفسي ،
صرخات أبواقها أخذ يلاحقني ،
تسللت يدي بسرعة إلى جيبي ،
انتزعت قطعا من منديل ورقي أحشو بها أذني ،
حاولت الابتعاد عن هذه الطرق الإسفلتية السوداء ،
صعدت أول جسر لعبور المشاة ،
هبطت الناحية الأخرى عند محطة القطار ،
جريت ألحق بالقطار الذي بدء يتحرك بالفعل ،
جلست بجانب النافذة أنظر إلى هذه المكعبات الجامدة ،
أخيرا فلتنا من بين فكاك المدينة الموحشة ،
تسلل بنا القطار برفق بين الحقول ،
حملتني الذكريات فوق جناحيها تسابق القطار ،
هبطت بي بين حقول الطفولة ،
وجدتني محمولا على كتفيه ،
سألته على استحياء )
ـ على فين يا با ؟
ـ مش كان نفسك تعوم ؟
ـ آه ....
ـ طيب خلاص ها أعلمك ....
( انهلت على رأسه أقبلها غير مصدق )
ـ بجد يا با ؟
ـ أنا عمري وعدتك بحاجة و خلفت ؟
ـ عمرك .
ـ طيب خلاص .
( وقف فوق الجسر الخشبي و صرخ )
ـ يلا عوم .
( قذفني في الماء ، صرخت )
ـ لأ يـــا بـــــــــــــــــــا ، ما بعرفش أعــــــــوم .......
( ارتطمت بالماء و غصت أغرق ،
انسحبت روحي ، حبست أنفاسي ،
أخذت ألوح بيدي و قدمي يمينا و يسارا ،
فجأة أحسست بشيء يرفعني لأعلى ،
وجدتني أطفو فوق سطح الماء ،
وجدته يحملني فوق ساعديه )
ـ ما تخليك راجل أمال ...
( حاولت لملمة الحروف )
ـ أصل ... أنت .... رميتني فجأة ... ما كنتش واخد بالي ....
ـ ما هو لازم كده عشان تتعلم .... يلا حرك أيدك و رجلك ....
( أخذت ألوح بيدي و قدمي بينما يحملني على ساعده ،
فجأة ،
وكزني الجالس جواري بالقطار )
ـ إنت نازل فين يا أستاذ ؟
( أفقت على تحرك القطار ثانية )
ـ شربين .....
ـ ما هي دي شربين ، إلحق انزل بسرعة....
( نظرت حولي فإذا بالقطار يتحرك ،
جريت إلى الباب بينما صرخ الجالسون )
ـ حاسب يا اسطى .....
( قفزت من القطار بسرعة ،
تابعني بعض الركاب مطمئنين ،
الحمد لله نزلت بسلام ،
رفعت يدي ملوحا متمنيا لهم السلامة ،
انتظرت حتى مر القطار ، عبرت السكك الحديدية ،
انزويت من بين الأشجار إلى طريق ترابي صغير ،
متسللا بين الحقول ،
أحسست ببرودة بعض قطرات ماء تتساقط على وجنتي ،
نظرت إلى السماء و إذا بالمطر و قد بدء يهطل على استحياء ،
طارت العصافير و الحمائم تحتمي بأعشاشها ،
رائحة المطر تداعب أنفي ،
عبقت رائحة الأزهار الكون من حولي ،
ازداد المطر هطولا ،
انزويت محتميا بإحدى الأشجار ،
أخذ المطر يتساقط بغزارة ،
ضممت المعطف طلبا للدفء ،
أخذت أتابع القطرات التي بدأت تتجمع حتى سالت خلال قنوات صغيرة إلى المستنقعات المنخفضة حول الأشجار ،
بدأت المياه ترتفع من حولي ،
ما العمل الآن ؟
تسربت المياه إلى داخل حذائي ،
هل سأبقى هكذا ؟
على ما يبدو أن المطر لن يتوقف ،
عندها عزمت على تكملة رحلتي تحت الأمطار ،
تحركت في اتجاه بلدتنا التي تتوارى خلف الحقول في الأفق هناك ،
حاولت التقدم بين الأوحال ،
مع كل خطوة أجتهد لنزع حذائي من بين الطين ،
فلتت قدمي اليمنى من الحذاء الذي أطبق الوحل عليه فظل ثابتا دون حراك ،
غاصت قدمي في الطين ،
لا حول و لا قوة إلا بالله ،
عدت ثانية محاولا استرداد الحذاء فإذا بقدمي الأخرى تفلت لتغوص هي الأخرى ،
لم استطع السيطرة على ضحكاتي فانطلقت تقرقع في الفضاء ،
حملت الحذاء بيدي و رحلت أكمل طريقي ضاحكا ،
حاولت الصعود للأماكن المرتفعة التي لم يغرقها الماء بعد ،
فجأة ، انزلقت قدمي ، اختل توازني ، فسقطت ممددا في الوحل ،
ارتطم وجهي يغوص بالطين ،
انفجرت في الضحك ،
لم أجد أمامي بد من الفرار ،
عندها انقلبت ممددا على ظهري بالوحل أضحك ،
اغتصب سمعي صوت جرس هاتفي المحمول ،
حاولت الجلوس حتى نجحت ،
أخرجت الهاتف من جيبي ، دست مفتاح الاتصال ، وضعته على أذني )
ـ نعم .
( جاءني صراخ صديقي )
ـ محمد ، تعالى بسرعة عشان (عز) بيه جه و قاعد يزعق و قالب الدنيا ............
( عندها ، أخذتني نوبة من الضحك ، فألقيت بهاتفي في المياه المتجمعة حولي ،
لكنه طفا فوق سطح الماء فسمعت طلاسم صوت صديقي )
ـ بللق ... بللق .... بللق ....
( أخذتني نوبة من الضحك )
ـ اسكت أحسن لك .... هاهاها ....
ـ بللق .... بللق ....
ـ ما فيش فايدة ؟ طيب ، تستاهل بقى اللي يجرى لك ....
ـ بللق .... بللق ..... بللق ....
( أمسكت بالهاتف مرة أخرى و أغرقته بالقاع داخل الطين )
ـ بس بقى ، إنت إيه ؟ ما بتزهقش ؟ ما تبس بقى ، بس ، بس .......
( أخيرا اختفى صوته ،
تحسست الطين حولي ألتمس حذائي حتى نجحت فرفعته ،
فإذا به و قد ملأه الماء و الطين ،
رفعته أفرغ ما فيه فوق رأسي ،
فسال على وجهي و جسدي ،
أخذت أردد ما قاله صديقي إيليا أبو ماضي )
ـ نسى الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها و عربد ........
دعاء الكروان ( 2 )
( عرجت في طريقي إلى هذا البيت الأبيض الصغير القابع بين الأشجار ،
أخذت أتحسس هذه الرسومات الطباشيرية التي رسمتها و أنا صغير ،
مازالت كما هي لم تمحوها الأيام و السنين ،
سمعت أصوات ضحكات براءة الطفولة التي كانت تنطلق منا فتملأ الفضاء ،
تختلط بأصوات الطيور و العصافير فوق الأشجار ،
داعبت أنفي رائحة أشجار الليمون و الجوافة ، حاولت التلذذ بأكثر قدر منها ،
أخذت منتشيا المزيد من الأنفاس العميقة محاولا اختزانها بصدري ،
وقفت للحظات أمام الباب الخشبي العتيق ،
ترددت طويلا في طرق الباب ،
هل هي هنا ؟ أم تراها ذهبت إلى بيت أبي في آخر القرية هناك ؟
طرقت الباب على استحياء ،
جاءني صوتها الواهن تسأل )
ـ مين ؟
( هل أرد عليها ؟ أم أجعلها مفاجأة ؟
أقترب صوتها من وراء الباب تكرر )
ـ مين ؟
ـ أنا ....
( فتحت الباب ، تسللت رائحة الفرن و الخبز من داخل الدار ،
و إذا بها تقف أمامي بجلبابها الأسود تناثرت عليه بعض ذرات الدقيق ، كما هي لم تتغير ، صبغ الحزن عينيها بالبياض ،
مالت برأسها جانبا و كأنها تتحسس النظر بأذنيها ، لمعت أسنانها البيضاء خجلى من وراء شفتيها ، مسحت وجه كفيها و ظهريهما بجلبابها ، سألت مترددة )
ـ محمد ؟
( حاولت استبيان الحقيقة فمدت أصابعها تلامس وجهي ،
اقتربت مني تشمني )
ـ أنت لسه عيل زي ما أنت ؟
ـ الحاج عبد الموجود موجود ؟
( أخذتنا حالة من الضحك ، فتحت ذراعيها فارتميت في حضنها )
ـ كده برضه يا محمد ؟ و لا كأن ليك أهل تسأل عنهم و تطمنهم عليك ؟
( أخذت تبكي ،
حن قلبي لبكائها فشاركتها البكاء )
ـ هي دي برضه صلة الرحم ؟
ـ أرجوك تسامحيني يا ( نبوية) ، الشغل واخد كل وقتي و الله .....
ـ طب على الأقل اتصل اطمن علينا ( انتبهت لبرودة جسدي ، فأبعدتني تسأل ) إنت مبلول كده ليه ؟
ـ أصلي ازحلقت و وقعت في الطين و أنا جاي ....
( فلتت ضحكاتها من بين الدموع )
ـ هاهاها ، ما فيش فايدة فيك أبدا ؟ حتى و أنت كبير برضه بتزحلق ؟ طب على الأقل زمان لما كنت باشوف كنت بامسك إيدك ، فاكر يا وله لما ازحلقت و شدتني معاك وقعتني في الترعة ؟ ها ها ها ...
ـ أخبار أبويا إيه ؟
ـ و الله مش و لا بد ، مش عارفة أقولك إيه يا محمد ؟ أديك ها تشوف بنفسك .
ـ أمال مين اللي قاعد معاه ؟
ـ أديني هنا شوية و هنا شوية .
ـ طب ليه الشحططة دي ؟
ـ ما أنت عارف دماغه ، مش راضي يجي يقعد معايا ، بيقول ما أخرجش من بيتي إلا ع القرافة ، ده أنا و أبو يوسف غلبنا فيه .
ـ معلش ، خليه براحته ، طب ها تيجي معايا ؟
ـ آجي معاك فين ؟ مش الأول لما تدخل تستحمى و تغير هدومك المبلولة دي ؟ و تاكل لك لقمة ؟ تعالى ادخل ادخل ....
( أمسكت بيدها أدخلها ، سحبت يدها بسرعة )
ـ إنت فاكرني ما باشوفش و إلا إيه ؟ تعالى ادخل يا نور عيني تعالى ، خلي بالك من الطشت لتتعتر فيه ، تعالى اقعد هنا على الكنبة ، ثواني و راجعة لك .
( تحسست طريقها إلى داخل الدار ،
ما هي إلا لحظات حتى أتت )
ـ تعالى يلا خش الحمام ، أنا ولعت لك ( الباجور ) على بستلة المية أهي ، و ( الكوز ) هتلاقيه عندك على كرسي الحمام ، و خد يا عم آدي صابونة جديدة بورقتها ، هدومك و الفوطة متعلقين على المسمار اللي ورا الباب ، و ابقى حط لي بقى المبلول ده كله في ( القروانة ) عشان أغسلهم لك ، إن شاء الله تطلع تلاقيني سخنت لك الأكل ، يلا هم .
ـ الله يبارك فيك يا نبوية ، مش عارف من غيرك كنا عملنا إيه ؟
( انحنيت على يدها أقبلها ، سحبت يدها بسرعة )
ـ استغفر الله العظيم ، عيب يا وله ، أزعل منك و الله ، ده أنت ابني الكبير ....
( دخلت و أغلقت الباب ،
أخذني صوت ( وابور الجاز ) و رائحة رطوبة الجدران على جناحيها هناك ،
وجدتني أجلس عاريا بين يدي أمي التي تجلس على كرسي الحمام الخشبي الصغير ،
تصب الماء الدافئ على جسدي ، أبكي من حرقة الصابون الذي دخل عيني )
ـ مش قايلة لك تقفل عينك يا نور عيني ؟ وريني ...
( أخذت تصب الماء على رأسي و تفرك عيني )
ـ هيه ؟ راح ؟
ـ أيوة خلاص ، كفاية بقى .....
( لفتني داخل المنشفة و أخذت تجفف جسدي )
ـ كفاية بقى ....
ـ استنى لحسن تاخد برد ، هات إيدك ....
( ألبستني جلبابي الجديد و أخذت تصفف شعري بمشطها الأبيض الصغير )
ـ أيوة كده ، قمر اربعتاشر يا ناس ؟ الجلابية ها تاكل منك حتة .....
( جاءني صوت نبوية تنادي )
ـ يلا يا محمد الأكل ها يبرد ....
( خرجت فوجدتها و قد وضعت أطباق الطعام فوق الطبلية الخشبية )
ـ تعالى دوق أكل أختك نبوية ، تلاقيك يا حبة عيني ما بتتهناش على لقمة هناك ...
ـ لأ ، مين ده ؟ و هو احنا ورانا هناك غير الأكل ؟
ـ و هو أكل المطاعم ده برضه بتسميه أكل ؟ خد خد ، بالهنا و الشفا ...
( أخذت أتناول الطعام )
ـ بسم الله ما شاء الله ، تعرفي إن أنتي الوحيدة اللي طبيخك زي أمي الله يرحمها ؟
ـ الله يجبر بخاطرك ، إش جاب لجاب ؟ اسكت أما اضحكك ، مش كنا بندور لأبوك على عروسة ؟
ـ معقولة ؟
ـ إيوة و المصحف ، الشيخ مبروك الله يكرمه قال لنا الراجل ده ما ينفعش قعدته كده من غير ست تاخد بالها منه و تراعيه ...
ـ و هو وافق ؟
ـ الصراحة قلنا ما نقولوش إلا لما نشوف له واحدة مناسبة الأول ، و ساعتها بقى نبقى نقول له و ناخد رأيه ....
ـ مش ها يوافق ، أنا عارف ....
ـ المهم يا سيدي قعدنا ندور لغاية لما لقيت له واحدة مية مية ...
ـ و دي مين دي إن شاء الله ؟
ـ خالتك هانم أم البشلاوي ....
ـ هي لسه عايشة ؟
ـ عايشة يا خويا و زي الفل ، و صحتها بمب و عال العال ، قلت أكلمها و آخد رأيها ، أهي تخدمه و تراعيه و تاخد بالها منه ...
ـ و قالت لك إيه ؟
ـ الست يا خويا باقول لها إيه رأيك أنا جايبة لك عريس ، لقيتها رحبت بيا و طرطقت وادنها و لا بنت أربعتاشر ....
ـ طب كويس ، المهم ؟
ـ الست باقول لها يعني إن العريس راجل كبير و نايم تعبان و عاوز يعني واحدة ست كده جنبه تخدمه بس و تسليه ، لقيتها قامت و حطت كيس العنب اللي جايباه في حجري و قالت لي : ما عندناش بنات للجواز يا أم يوسف ، و ابقي يا أختي عدي على المقلة خدي له معاك نص كيلو لب يتسلى بيه أحسن هاهاهاهاها ...
( انفجرنا في الضحك )
ـ شوف يا أخويا الست ها ها ها ....
ـ لا مش ممكن ، هاهاها ، ما هو أنت برضه اللي غلطانة ، رايحة لواحدة بتلعب في الناشئين تحت سبعين سنة و عاوزة تضيعي الثواني اللي فاضلة ف عمرها ؟ ها ها ها ، أمال أبو يوسف فين ؟
ـ تلاقيه قاعد ع القهوة بيشرب له حجرين معسل ، ها يروح فين يعني ؟
ـ على رأيك ، صحيح ، ما فيش أخبار عن يوسف ؟
( شردت المسكينة و وجدت الدموع و قد بدأت تترقرق في عينيها ، حاولت المسكينة إخفائها ، ففشلت )
ـ الواد حسن ابن خالتك ( سنية ) لما رجع م العراق حلف لي ع المصحف إنه شافه مرة هناك بيبيع سجاير في الشارع ، كان ساعتها راكب الأتوبيس ، و قعد ينادي له م الشباك ، بس ما ردش عليه ، و لما نزل في أول محطة و رجع نفس المكان عشان يقابله لقاه فص ملح و داب ...
ـ لا حول و لا قوة إلا بالله ، الواد ده طالع براوي كده لمين ؟
( ضحكت المسكينة رغم ألمها و بادرتني )
ـ هيه ، ها يكون طالع لمين يعني ؟هم مش بيقولوا في المثل : الواد لخاله ؟
( أحسست بطعنة في صدري )
ـ كده برضه يا نبوية ؟ الله يسامحك ....
( حاولت التخفيف من حدة ردها فبادرتني )
ـ أنا باضحك معاك يا وله ، أهو أنت أهو على الأقل جاي تسأل علينا ، الرك بقى على اللي خد في وشه و راح ما جاش ، كل كل ....
ـ الحمد لله شبعت ...
( وقفت متأهبا للذهاب )
ـ استنى لما أعمل لك الشاي ...
ـ لأ معلش ، ها اشربه هناك ، إيه ؟ مش ها تيجي معايا و إلا إيه ؟
ـ لأ روح أنت و أنا ها احصلك ، عشان بس أغسل الهدوم المبلولة دي بدل ما تعفن .
ـ طيب سلام عليكم .
ـ و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ،
( خرجت راحلا في اتجاه بيت أبي ، بينما جاءني صوتها يحذرني )
ـ خلي بالك بقى و أنت ماشي لتزحلق و تقع تاني .........
دعاء الكروان ( 3 )
( رحلت إلى دار أبي حذرا محاولا التركيز و الانتباه حتى لا أنزلق فأقع مرة أخرى ،
من أين ستأتي نبوية بجلباب آخر ؟
أخذت أتحسس الخطى بأطراف أقدامي ،
كلما تقدمت خطوة بقدم ثبتها جيدا بالأرض حتى أتقدم بالأخرى متأنيا ،
و إذا بي أمام دار خالتي ( ليلى ) ،
آآآآآآه ، ما العمل الآن ؟
لو رأتني لن تتركني أرحل ،
دعوت الله ألا تكون جالسة في شرفتها كعادتها ،
وقفت مستترا بشجرة ( الجميز ) التي أمام دارها ،
ألتمس النظر من وراء الغصون و الأوراق ،
لاااااااا، كما توقعت ، ها هي تجلس على أريكتها الخشبية ،
ما العمل الآن ؟
هل أذهب إليها ؟
لا لا مستحيل ، سأتأخر عن الذهاب لوالدي ،
لن تتركني أرحل مهما اختلقت لها من أعذار ،
على الأقل ستتمسك بمصاحبتها في تناول فنجال من القهوة ،
لا ، الوقت لا يتسع لها و لحديثها الآن ،
الحل الوحيد هو الدوران من خلف دارها ،
نعم نعم ، و في المساء سأستأذن أبي و أذهب إليها ،
تراجعت حذرا حتى اختفت شرفتها ،
أسرعت أدور من خلف الدار ،
تسللت بين أعواد الذرة هناك ،
فجأة وجدت كلبا يقف في مواجهتي ،
ما إن أحس باقترابي حتى اعترض طريقي مزمجرا ،
لا حول و لا قوة إلا بالله ،
حاولت الثبات و التراجع ببطء أمامه ،
وقف الكلب متحفزا ،
ليس من الحكمة الهرب الآن ،
كلما تراجعت خطوة علا صوت زمجرته و اقترب مني أكثر ،
ظهرت أنيابه و بدأ اللعاب يسيل منها ،
سال العرق على جبهتي ،
قلبي يكاد يقفز هربا من قفصه الصدري ،
حاولت التماسك ، أخذت شهيقا عميقا و نفخته بتوتر ،
لابد من شراء وده ،
أخذت أمصمص بشفتاي ،
لا فائدة ، يبدو أنه ليس من النوع الذي يتراجع بالمصمصة ،
ما العمل الآن ؟
أصبحت في وضع لا أحسد عليه ،
بدأ يتأهب للنباح ،
لا ، إلا النباح أرجوك ،
زمجر كيفما تشاء ، و لكن إلا النباح ،
ستخرج خالتي و تراني على هذه الحالة ،
استغفر الله العظيم ،
ما العمل الآن ؟
فجأة ،
تخلى عن زمجرته و بدأ يهز ذيله و يتراجع ،
وجدت كفا تضرب على كتفي )
ـ إيه ؟ مين ؟
( التفت مذعورا ،
فإذا بابن خالتي يضحك )
ـ ههههه ، ما فيش فايدة ؟ لسه قلبك رهيف ؟
( تنفست الصعداء )
ـ حودة ؟
( تعانقنا )
ـ إيه ياعم الوحش اللي مربيه ده ؟ مش تقوله إن أنا ابن خالتك ؟ هههههه ....
ـ تعالى تعالى ، إنت كنت مزوغ كده و رايح فين ؟
ـ أصلي لسه واصل دلوقتي حالا ، و الصراحة كده يعني خفت لأمك تشوفني و تمسك فيا ، ما أنت عارفها ، قلت أروح أشوف أبويا الأول ، بس و اللي قابلنا من غير ميعاد كنت هأرجع لها بالليل على رواقة ....
ـ آآآآآه ، قول كده بقى ، هي دي برضه صفة الرحم يا متعلم يا بتاع المدارس ؟ بقى تغيب السنين دي كلها و آخرة المتمة ما تعديش تسلم عليها ؟ يا أخي دي برضه خالتك و في مقامك أمك الله يرحمها ......
ـ أنت ها تركبني الغلط و إلا إيه ؟ مش باقولك كنت هارجع لها بالليل ؟؟؟؟
ـ طب بس اسكت لتسمعنا ، دي بتسمع دبة النملة ، تعالى تعالى ....
( رجعنا إلى بيت خالتي و إذا به يتوقف خلف الدار و يلتقط بعض الحصى من الأرض و أخذ يقذف بها نافذة الدور العلوي )
ـ ثواني بس لما أطلع الحاجات دي و ألف معاك .
ـ أنت بتعمل إيه ؟
ـ هشششششش ، بس ما تفضحناش ....
( نظرت زوجته من النافذة ،
ألقت بحبل يتدلى منه حقيبة بلاستيكية ،
وضع فيها الأكياس الورقية التي يحملها ،
قال لزوجته هامسا )
ـ الحاجات اللي طلبتيها أهي ، على الله بس تيجي بفايدة ، و شوية كده و طالع لك ..
( أخذت زوجته تجذب الحبل لترفع الحقيبة )
ـ يلا بينا .
ـ إيه اللي أنا شفته ده بقى إن شاء الله ؟
ـ أصل مراتي حامل يا سيدي ، و قال إيه بتتوحم على التفاح ، فجايب لها تفاحتين أمريكاني كده على ما قسم ، تصدق بإيه ؟
ـ لا إله إلا الله .
ـ و اللي خلق الخلق ، قاعد م الصبح أدور عليه و ما لقيته غير في بورسعيد ...
ـ طب مش المفروض ، لا مؤاخذة يعني تعدي على أمك الأول ؟
ـ أيوة أيوة ، عشان التفاح يحلى في عينيها ، و ما ينوبش مراتي حاجة منهم ؟ دول يا دوب تفاحتين ، ها يكفوا مين و إلا مين ؟
ـ لأ إزاي ؟ ما يصحش طبعا ، مراتك أولى ، هههه ، هي دي بقى صلة الرحم اللي بتقول عليها ؟
ـ و النبي لا تعايرني و لا أعايرك ، طب ما أنت كمان كنت عاوز تروح لأبوك من غير ما تسلم عليها ؟ ها تسكت أحسن لك و إلا أقول لها ؟؟؟؟
ـ لأ و على إيه ؟ اتكتم أحسن .
ـ طب يلا بينا ، و ما تخافش ، ها أقول لها يا سيدي إني قابلتك ع المحطة .
( لفننا حول البيت ،
أمسك بيدي يثبتني مكاني و غمز بعينه )
ـ خليك هنا لما أعملها لها مفاجأة ....
( صعد درجات السلم المؤدية إلى الشرفة )
ـ سلام عليكم ، إزيك يا أمه ؟
ـ و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ، إنت كنت فين م الصبح ؟
ـ ها أكون فين يعني ؟ تخيلي بقى جايب لك مين معايا ؟
ـ أكيد محمد ابن خالتك ......
ـ ده أنت ولية ناصحة ، عرفتني منين ؟
ـ إياكش تكون فاكرني قاعدة نايمة على وداني ؟ تعالى يا د يا محمد ادخل .
( عندها جريت أصعد السلم ،
فتحت ذراعيها فارتميت بين أحضانها )
ـ كده برضه يا محمد ؟ تغيب المدة دي كلها ؟ و لا كأن ليك أهل .......
ـ معلش يا أمه سامحيني ، و الله ما منعني عنكم إلا الشديد القوي .
ـ الشديد القوي ؟ يلا معلش ما كلكم طينة واحدة ، اقعد يا با اقعد ....
( وجهت حديثها لابنها )
ـ اطلع يا وله شوف مراتك عشان تعبانة م الصبح و ابقى طمني عليها .
ـ حاضر يا أمه ، محمد ، ثواني و راجع لك ...
ـ لأ ، راجع لمين ؟ أنا ها اسلم على خالتي و أمشي على طول ....
( هممت بالوقوف فأمسكت يدي )
ـ تمشي فين ؟ تلاتة بالله العظيم ما تمشي إلا لما اطمن عليك و أعملك لقمة تاكلها .
ـ لسه واكل عند نبوية دلوقتي حالا ....
ـ خلاص اقعد اشرب معايا القهوة ، و اطلع أنت يا وله اطمن على مراتك .
ـ حاضر
( جلست بجوارها ،
مدت يدها إلى ( السبرتاية ) ترفع غطاءها و تشعلها لتعد القهوة )
ـ أخبارك إيه يا أمه ؟
ـ الحمد لله بخير و نعمة و الحمد لله ، ناولني القهوة و السكر اللي جنبك .
ـ خدي ، الواد ده عامل إيه معاك ؟
( تنهدت تنهيدة طويلة )
ـ عاوزني أقولك إيه يا محمد ؟ ما هو أنتم جيل ما يعلم بيه إلا ربنا ، فاكر إني ها أقولك إني شايفاك و أنت بتلف تهرب من ورا الدار عشان ما تسلمش عليا ؟ و إلا يعني ها أقولك إني شايفاك و أنت واقف مبلول قدام الكلب في الدرة ؟ و إلا أقول لك إنه نادى لمراته عشان تحدف له ( السبت ) يحط فيه الأكل ؟ و إلا أقول لك إنه بيجي آخر الليل و بيسحب زي الحرامية على فوق عشان ما اصحاش و اشوف اللي جايبه لمراته ؟ طب إيه رأيك مش ها أقول لك ،
إنتم فاكرين إننا مختومين على قفانا ؟ و إلا مش عارفين أنتم بتعملوا إيه ؟ و هو احنا عاوزين إيه يعني ؟ بس هي الواحدة مننا يهمها إيه غير إن ولادها يبقوا متهنيين و آخر انبساط ؟ طب تصدق بإيه ؟
ـ لا إله إلا الله .
ـ و اللي خلقك ما ها تحسوا بينا إلا لما تخلفوا و يبقى لكم عيال و تشوف ابنك كده بيتنطط قدام عينيك ، و تبقى ها تتشحطط عليه و عاوز تشيله من ع الأرض شيل و نفسك تحطه في قلبك عشان خايف عليه ، و تبقى لو طايل تجيب له الدنيا دي بحالها و تحطها تحت رجليه ، بس المهم يبقى مبسوط و راضي .......
( ترقرقت الدموع في عينيها و حاولت التماسك حتى نجحت فأكملت )
إوعى تفتكر إني زعلانة منك و إلا منه ،
لأ و الله العظيم ، و لا على بالي خالص ، قوم يا با قوم عشان تروح لأبوك ، زمانه يا حبة قلبي مستنيك على نار ، بس لو قدرت ابقى عدي عليا في أي وقت هتلاقيني مستنياك .....
( ذابت الكلمات فوق لساني ، ترقرقت صورتها بعيني ،
تناثرت الحروف بين شفتاي ، حاولت لملمتها فلم استطع ،
دارت الدنيا من حولي ،
انحنيت على يدها أقبلها ، بللت دموعي كفيها ،
حاولت التماسك ،
و رحلت في طريقي إلى بيت أبي يغلفني الصمت ......... )