التبرج
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،وعلى آله وصحبه.
أما بعد ، فلا يخفى على كل من له معرفة ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن عن الرجال ، وإبداء الكثيرمن زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها ، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة. ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد.
وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بتحجب النساء ولزومهن البيوت ، وحذرمن التبرج والخضوع بالقول للرجال صيانة لهن عن الفساد وتحذيرا لهن من أسباب الفتنة.
فقال سبحانه وتعالى:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }الآية
نهى سبحانه في هذه الآية نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين ، وهن من خيرالنساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال وهو تليين القول وترقيقه ، لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا ، ويظن أنهن يوافقنه على ذلك ، وأمر بلزومهن البيوت ونهاهن عن تبرج الجاهلية ، وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدروالذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرةوتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا ، وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن فغيرهن أولى ، وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة ، عصمنا الله وجميع المسلمين من مضلات الفتن ، ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن.
وقال عز وجل {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}فهذه الآيةالكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم ، وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها ، وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة ، وأن التحجب طهارة وسلامة.
فيا معشر المسلمين تأدبوا بتأديب الله ، وامتثلوا أمر الله ، وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة ووسيلة النجاة.
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
والجلابيب جمع جلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها وبدنها فوق الثياب للتحجب والتستر به ،
فأمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن.
وقال عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَمُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
يخبر سبحانه أن القواعد من النساء ، وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا، لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة ، فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك ولو كانت عجوزا ، لأن كل ساقطة لها لاقطة ، ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزا ، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت..؟؟؟
لا شك أن إثمها أعظم ، والجناح عليها أشد ، والفتنة بها أكبر.
وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح ، وما ذلك- والله أعلم- إلا أن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمّل والتبرج بالزينة طمعا في الأزواج ،فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة ، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف ، وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن ، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز ، وأنه خير لهن من وضع الثياب ، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرا للشابات من باب أولى ، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة.
وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ }
فالواجب على العبد أن يحذر ربه ، وأن يستحي منه أن يراه على معصيته ، أويفقده من طاعته التي أوجب عليه ، ثم قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }
فأمر المؤمنات بغض البصر ، وحفظ الفرج ، كما أمر المؤمنين بذلك صيانة لهن من أسباب الفتنة ، وتحريضا لهن على أسباب العفة والسلامة ، ثم قال سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلامَا ظَهَرَ مِنْهَا }قال ابن مسعود رضي الله عنه: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا }يعني بذلكما ظهر من اللباس ، فإن ذلك معفو عنه ، ومراده بذلك رضي الله عنه الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة ،
وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر {مَا ظَهَرَمِنْهَا}
بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب ، وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع ، كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيره.
"وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق وهو الحق الذي لا ريب فيه .
ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة ، وقد تقدم قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ }
ولم يستثن شيئا ، وهي آية محكمة فوجب الأخذ بها والتعويل عليها ، وحمل ما سواها عليها ، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين، وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك ، وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين ،
أحدهما : كونهن لا يرجون النكاح ،
والثاني عدم التبرج بالزينة ، وسبق الكلام على ذلك .
وإن الآية المذكورة حجة ظاهرة ، وبرهان قاطع على تحريم سفور النساء وتبرجهن بالزينة .
ويدل على ذلك أيضا ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها خمرت وجهها لما سمعت صوت صفوان بن المعطل السلمي وقالت : إنه كان يعرفها قبل الحجاب فدلذلك على أن النساء بعد نزول آية الحجاب لا يعرفن بسبب تخميرهن وجوههن ، ولا يخفى ماوقع فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج وإبداء المحاسن ، فوجب سد الذرائع وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد وظهور الفواحش .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ""وقال صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها " وهذا تحذير شديد من التبرج والسفور ،ولبس الرقيق والقصير من الثياب ، والميل عن الحق والعفة , ووعيد لمن فعل ذلك بحرمان دخول الجنة ، نسأل الله العافية من ذلك.
ومن أعظم الفساد: تشبه الكثير من النساء بنساء الكفار من النصارى وأشباههم في لبس القصير من الثياب ، وإبداء الشعور والمحاسن ، ومشط الشعور على طريقة أهل الكفر والفسق ، ووصل الشعر ، ولبس الرءوس الصناعية المسماة (الباروكة). وقال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم "
ومعلوم ما يترتب على هذا التشبه ، وهذه الملابس القصيرة التي تجعل المرأة شبه عارية من الفساد والفتنة ورقة الدين وقلة الحياء. فالواجب الحذر من ذلك غاية الحذر ، ومنع النساء منه ، والشدة في ذلك ، لأن عاقبته وخيمة ، وفساده عظيم ، ولا يجوز التساهل في ذلك مع البنات الصغار ، لأن تربيتهن عليه يفضي إلى اعتيادهن له ، وكراهيتهن لما سواه إذا كبرن ، فيقع بذلك الفساد والمحذور والفتنة المخوفة التي وقع فيها الكبيرات من النساء.
فاتقوا الله عباد الله ، واحذروا ما حرم الله عليكم ، وتعاونوا على البروالتقوى. وتواصوا بالحق والصبر عليه ، واعلموا أن الله سبحانه سائلكم عن ذلك ،ومجازيكم عن أعمالكم ، وهو سبحانه مع الصابرين ، ومع المتقين والمحسنين. فاصبرواوصابروا واتقوا الله ، وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين.
ولا ريب أن الواجب على ولاة الأمور من الأمراء والقضاة والعلماء ورؤساءوأعضاء الهيئات أكبر من الواجب على غيرهم ، والخطر عليهم أشد ، والفتنة في سكوت منسكت منهم عظيمة ، ليس إنكار المنكر خاصا بهم ، بل الواجب على جميع المسلمين - ولاسيما أعيانهم وكبارهم وبالأخص أولياء النساء وأزواجهن - إنكار هذا المنكر ، والغلظة فيه ، والشدة على من تساهل في ذلك ، لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نزل من البلاءويهدينا ونساءنا إلى سواء السبيل.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبةخردل "وأسأل الله أن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، وأن يصلح ولاة أمرنا ، ويقمع بهم الفساد ، وينصر بهم الحق ، ، وأن يوفقنا وإياكم وإياهم وسائرالمسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد ، في المعاش والمعاد ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد ، وآله وصحبه ، ومنتبعهم بإحسان إلى يوم الدين)