النميمة
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى والتزموا أفضل الأخلاق والآداب وابتعدوا عن سيئات الأخلاق.
واعلموا أن من أمراض النفوس التي انتشرت في المجتمع المسلم مرض النميمة، وهو داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأسر ويفرق بين الأحبة، ويقطع الأرحام وما أكثر انتشار النميمة بين الرجال والنساء في هذه الأيام، وأصل النميمة هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد وكشف الستر وهتكه.
قال يحي بن أكثم: النمام شر من الساحر ويعمل النمام في ساعة ما لا يعمل الساحر في سنه.
ويقال: عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالخيال والوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة والمعانية.
ومن أمثلة النميمة كأن تقول: قال فلان فيك كذا وكذا وهو يكرهك ولا يحبك وسواء كان هذا الكلام بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، إلى غير ذلك من الكلام غير الصحيح أحيانا وإن كان صحيحا لا يجوز أيضا نقله لأن هذا من النميمة ومن هتك الستر عما يكره كشفه، ومن نمّ لك نمّ عليك كما قيل.
النمام هو إنسان ذو وجهين يقابل كل من يعاملهم بوجه، فهو كالحرباء يتلون بحسب الموقف الذي يريده وقد حذر النبي من أمثال هؤلاء فقال: ((ذو الوجهين لا يكون وجيها عند الله)) وقال في الحديث الآخر: ((من كان ذا وجهين في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)) رواه البخاري، في الأدب المفرد وهو حديث صحيح، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((تجد من شر الناس يوم القيامة، عند الله، ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) فالمسلم الصادق أيها الإخوة: له وجه واحد حيثما كان وله لسان واحد لا ينطق إلا بما يرضي ربه عز وجل.
وينبغي لكل إنسان أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير وغالب في العادة وفي الحديث المتفق على صحته قال عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت))، ففي هذا الحديث نص صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم الشخص إلا إذا كان الكلام خيرا، وهو الذي ظهرت له مصلحته ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم.
قال الإمام الشافعي: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكّر قبل كلامه فإن ظهرت المصلحة تكلم وإن شك لم يتكلم حتى يظهر.
والبهتان على البريء ونقل الكلام غير الصحيح عنه أثقل من السماوات وويل لمن سعى بوشاية برئ عند صاحب سلطان ونحوه، فصدقه فربما جنى على برئ بأمر يسوءه وهو منه براء وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه.
وفي الحديث الآخر: ((ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال: المشاؤن بالنميمةالمفسدون بين الأحبة، الباغون للبرءاء العنت))، ولنتأمل قول النبي : ((من أشاع على مسلم كلمة يشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة)).
هذا جزاؤه يوم القيامة وقبل ذلك عذاب القبر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله مر بقبرين فقال: (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)) قال العلماء في معنى قوله: ((وما يعذبان في كبير)) أي فيما يظن الناس أن هذا العمل حقيرولكنه عند الله كبير.
ويقال: إن ثلث عذاب القبر من النميمة، وإذا كانت النميمة مما يوجب عذاب القبر أولا، ثم العذاب بعد الحشر ويوم القيامة، كان من الواجب علينا أن نحذر منها وأن نهيب بالذين لا يعلمون ما في ذلك من الضرر الكبير والخطر العظيم على المجتمع وعلى الإنسان نفسه أن يتجنب هذا الخلق المهين، فالنمام يفسد ذات المبين ويفعل بالناس فعل النار في الهشيم، يدخل بين الصديقين فيصيرهما عدوين، وينقل إلى كل منها عن أخيه ما يسوؤه ويكدّره.
وأما النميمة بين النساء في البيوت وبين العائلات فحدث ولا حرج ويا لهول ما تنمّ به المرأة عن صديقتها وجارتها وجليستها أو أقارب زوجها أو نساء أصدقائه أو زوجها إذا صدقت في شيء واحد فإنها كالكهان تضيف إلى كلمة الصدق تسعا وتسعين كذبة وكلامها مسموع وخبرها مقبول، وروايتها صحيحة عند زوجها الذي لا يخالف لها أمرا ولا يخيّب لا أملا، ولا يردّ لها شفاعة وكم أضرمت من نار الحقد والعداوة بين الأقارب والأصدقاء فينبغي أن لا يسترسل الرجل إلى كل ما ينقل إليه وليتثبت قبل أن يحكم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، وقد يدخل النمام بيوت الله ومساجده فيخرج مأزوراً غير مأجور يبدل ما سمع من الخطابة والتدريس بما شاءت له نفسه الخبيثة وأوحى به إليه إبليس فهو لا يسمع إلا غلطا ولا يرى إلا خطأ، سيئ الظن لا يحسن الظن بكلام الناس ولا يحمله على أحسن المحامل.
وأما حكم النميمة، فهي محرمة بإجماع المسلمين وقد تظاهرت على تحريمها الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي كبيرة من كبائر الذنوب.
قال الحافظ المنذري: (أجمعت الأمة على تحريم النميمة وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل)، وقد حرمت النميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين وأما أدلة التحريم فقوله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ، وأما الأدلة من السنة فقد ذكرناها قبل قليل.
وأما دوافع النميمة:
إن مما يدفع الناس إلى النميمة بواعث خفية منها:
أولا: جهل البعض بحرمة النميمة وأنها من كبائر الذنوب وأنها تؤدي إلى شر مستطير وتفرق بين الأحبة.
ثانيا: التشفي والتنفيس عما في النفس من غل وحسد.
ثالثا: مسايرة الجلساء ومجاملتهم والتقرب إليهم وإرادة إيقاع السوء على من ينم عليه.
رابعا: أراد التصنع ومعرفة الأسرار والتفرس في أحوال الناس فينم عن فلان ويهتك ستر فلان.
ومن صفات النمام: قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم .
فالصفة الأولى: أنه حلاف كثير الحلف ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به فيحلف ليداري كذبه ويستجلب ثقة الناس.
الثانية: أنه مهين لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس في قوله، وآية مهانته حاجته إلى الحلف، والمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان ذا مال وجاه.
الثالثة: أنه هماز يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم على حد سواء.
الرابعة: أنه مشاء بنميم يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم ويقطع صلاتهم ويذهب بمودتهم وهو خلق ذميم لا يقدم عليه إلا من فسد طبعه وهانت نفسه.
الخامسة: أنه مناع للخير يمنع الخير عن نفسه وعن غيره.
السادس: أنه معتدٍ أي متجاوز للحق والعدل إطلاقاً.
السابعة: أنه أثيم يتناول المحرمات ويرتكب المعاصي حتى انطبق عليه الوصف الثابت والملازم له أثيم.
الثامنة: أنه عتل وهي صفة تجمع خصال القسوة والفضاضة فهو شخصية مكروهة غير مقبولة.
التاسعة: أنه زنيم وهذه خاتمة صفاته فهو شرير يحب الإيذاء ولا يسلم من شر لسانه أحد.
من نمّ في الناس لم تؤمن عقاربه
على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسيل بالليل لا يدري به أحد
والويل للودّ منه كيف ينعيه
أيها الإخوة: لقد امتن الله تعالى على عباده بالتأليف بين قلوبهم وجمع شتاتهم فقال تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وقال تعالى: إنما المؤمنون اخوة، وكل من سعى إلى إشعال الفتنة والعداوة بين المؤمنين فإنه تجاوز حدود الله ووقع في معصيته قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء .
ومن أراد أن يعالج لسانه من النميمة فعليه أن يشغل لسانه ومجلسه بذكر الله وبما ينفع ويتذكر أمورا:
أولا: أنه متعرض لسخط الله ومقته وعقابه.
ثانيا: أن يستشعر عظيم إفساده للقلوب وخطر وشايته في تفّرق الأحبة وهدم البيوت.
ثالثا: أن يتذكر الآيات والأحاديث الواردة وعليه أن يحبس لسانه.
رابعا: عليه إشاعة المحبة بين المسلمين وذكر محاسنهم.
خامسا: أن يعلم أنه إن حفظ لسانه كان ذلك سببا في دخوله الجنة.
سادسا: أن من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته.
سابعا: عليه بالرفقة الصالحة التي تدله على الخير وتكون مجالسهم مجالس خير وذكر.
ثامنا: ليوقن أن من يتحدث فيهم وينمّ عنهم اليوم هم خصماؤه يوم القيامة.
تاسعا: أن يتذكر الموت وقصر الدنيا وقرب الأجل وسرعة الانتقال إلى الدار الآخرة .
ولو أنا إذا متنا تركنا
لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا
ونُسئل بعده عن كل شي
أيها المسلمون: لقد حرم الله جل وعلا النميمة وإن كان ما ينقله النمام من الكلام حقا لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، ورخًص في الكذب مع كونه كذبا في الإصلاح بين المتخاصمين وتأليف القلوب بين المسلمين وما ذاك إلا لمحبة الإسلام في رأب الصدع وإزالة الشحناء وتأليف القلوب في المجتمع المسلم ولهذا ورد عن النبي أنه قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) رواه مسلم.
ونختم بهذه القصة أن رجلا باع غلاما عنده فقال للمشتري: ليس فيه عيب إلا أنه نمام، فاستخفّه المشتري فاشتراه على ذلك العيب فمكث الغلام عنده أياما ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال لها: خذي الموس واحلقي شعرات من باطن لحيته إذا نام، ثم جاء إلى الزوج، وقال: إن امرأتك اتخذت صاحبا وهي قاتلتك أتريد أن يتبين لك ذلك. قال: نعم، قال: فتناوم لها، فتناوم الرجل، فجاءت امرأته بالموس لتحلق الشعرات، فظن الزوج أنها تريد قتله، فأخذ منها الموس فقتلها، فجاء أولياؤها فقتلوه، وجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الفريقين.
أرأيتم ما تصنع النميمة كيف أودت بحياة رجل وزوجته وأوقعت المقتلة بين أقاربهما هذا صنيع ذي الوجهين دائما.
يسعى عليك كما يسعى إليك فلا
تأمن غوائل ذي وجهين كيّاد